وثيقة حل القضية الجنوبية: لماذا تقوض اليمن وتديم صراعاته؟ .. ماجد المذحجي
1 يناير، 2014
101 27 دقائق
يمنات
في تاريخ 24/12/2013م, أعلن رئيس الجمهورية الانتقالي عبد ربه منصور هادي اتفاق القوى السياسية على ما أطلق عليه وثيقة “اتفاق حول حل عادل للقضية الجنوبية”, وتوقيعهم عليها.
ورغم هذا الإعلان الذي يُفترض أن يكون نهائياً وينهي أعمال المؤتمر التي مددت بسبب عدم الاتفاق على حل القضية الجنوبية, فقد حدث لغظ كبير حول صحته من ناحية كون كل القوى السياسية اساسية على هذه الوثيقة, ورفضت التوقيع عليها لأسباب متباينة, وهي الحزب الاشتراكي اليمني, والتنظيم الوحدوي الناصري, والمؤتمر الشعبي العام.
تأخذ هذه الوثيقة أهميتها القصوى من كونها أشبه ما تكون بوثيقة “تأسيس” وإنشاء لدولة يمنية جديدة على أنقاض الدولة الحالية, يتم فيها تغيير شكل الدولة ونظامها السياسي جذرياً, وذلك اعتماداً على إعادة تعريف الشعب اليمني وتحديد جديد لمكوناته! إضافة لتحديد حقوق كل واحدة من هذه المكونات بطريقة جديدة وفي مواجهة بعضها كما يبدو.
تأتي المشكلة الأولية لهذه الوثيقة الخطيرة التي سيتم تحليل مضامينها في ما يلي, من انبثاقها من مقترح تجميعي لآراء قوى سياسية “تصارعت” في ما بينها في إطار الفريق المصغر للقضية الجنوبية.
وكان المبعوث الأممي الخاص لليمن ,جمال بن عمر, قدمه كمقترح جاهز ضمن خبرته وفهمه و”انحيازه” ففيما ينتظر أن ينبثق وثيقة مشابهة, من شأنها أن تقرر مستقبل اليمن وتنشئ دولة جديدة فيه, عن أعمال جمعية تأسيسية وطنية منتخبة وممثلة لعموم اليمنيين, فإنها ليست كذلك, بل هي مُجرد نتاج فني لمقترح مبعوث دولي بادر إلى تجميع آراء قوى سياسية في أحد فرق مؤتمر حوار معين بقرار من رئيس انتقالي.
وبعيداً عن ديباجة هذه الوثيقة التي تُقرر وجوباً أن حل القضية الجنوبية يمر عبر تغيير الشكل الدستوري الحالي المقرر لماهية الدولة اليمنية الحالية والمستفتى عليه شعبياً منذ إنشائها في العام 1990, ليكون أمر هذا الحل المقرر قائما فقط على “أساس اتحادي” مشيراً إلى حل المظالم على الجنوب ومعالجتها ك”جزء أساسي من سعينا الجماعي إلى بناء يمن اتحادي جديد يجب معالجة مظالم الماضي تحديداً من دون تأخير”.
ورغم ذلك لا يقول النص لماذا سيكون الشكل الاتحادي الجديد المقترح للدولة هو الحل بالأساس للقضية الجنوبية, مادام الطريق إلى مستقبل جيد يمر فقط عبر حل قضايا الجنوب, ورد المظالم التي وقعت فيه, وإعادة الحقوق إلى أصحابها.
بالتأكيد لا يمكن التجاوز هنا أن هذه النقاط ال20 التي تم التقدم بها من اللجنة الفنية للحوار الوطني (اللجنة المصغرة) من اجل ضمان التهيئة للحوار, وبما يكفل إرخاء المناخ السياسي المحتقن في الجنوب, والمشار إليها في مقدمة هذه الوثيقة, تم مقومتها من كل أطراف العملية السياسية ومن الرئيس الانتقالي وبتواطؤ من المبعوث الأممي, رغم كونها كانت شرطاً لازماً وسابقاً للحوار, الأمر الذي يوحي بكون تفويت عملية تنفيذها بشكل مدروس كان عرضه بالأساس مُفاقمة الوضع المحتقن في الجنوب, وجعل غضبه والتداعيات الناجمة عنه تصبح ذات طابع انقسامي بدل من كونه موجهاً ضد نظام الحكم!
تُرسي إذا هذه الوثيقة الحل المفترض بها بناء على عدد من المبادئ التي تم إيرادها في 11 نقطة, وفي المبدأ الأول, تُقرر الوثيقة أنه يجب أن يصاغ دستور جديد يقضي أن الإدارة الشعبية والمساواة والتزام أعلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان أساس سلطة وشرعية الدولة الاتحادية على جميع المستويات, وفق ما تقتضيه الديمقراطية التمثيلية والتشاركية والتداولية لضمان التعددية السياسية والتداول السلمي للسطلة”.
وفق ما نلحظ هنا أنه يتم حشد وجوه عدة من وجوه الديمقراطية لتوضع معاً في الدستور الجديد, وهي التمثيلية والتشاركية والتداولية, واستعراض هذا النص بداية كاشف عن البعث الذي تمت به الصياغة, فهذه الأشكال الديمقراطية التي حشدها بعضها بجوار بعض دون تمييز, تعكس كل واحدة منها مفهوماً متبايناً عن الأخرى, وتشكل اختياراً مستقلاً بذاته؛ ويتم عادة اختيار واحدة منه فقط, ليتم عكس مقتضياتها في الديمقراطية المنشودة لبلد بعينه, وذلك لا يتم عبثاً, بل بناء على فهم خصائص كل واحدة منها ولماذا هي ملائمة لدستورنا ونمط عيشنا بعينها, لا حشدها بجوار بعضها البعض عبثاً و”ضحكاً على الذقون” هكذا كما قامت الخبرة الدولية التي عكسها كما يفترض بن عمر وفريقه الأممي, ويمكن بالتأكيد مراجعة الفروق الأولية البسيطة في التعريف والمقتضيات لكل ديمقراطية على حدة في الويكيبيديا, وبشكل أعمق في مراجع الفكر السياسي الحديث!
تُقرر المواد من الثانية الى السابعة شكل الحكم الإداري في اليمن على 3 مستويات وهي المركز الاتحادي , الإقليم, ومن ثم الولاية, بصلاحيات كاملة على كل المستويات للإقليم والولاية على حساب المركز.
ولكن المختبر الحساس والكاشف لهذه الصلاحيات يأتي في المواد اللاحقة, حيث المادة الثامنة التي تقول إن “الوارد الطبيعية ملك الشعب في اليمن” ولا أدري لماذا لا يتم قول الشعب اليمني ببساطة! ولكن النص لاحقا على هذه الجملة يقوم بتقسيم هذه الملكية العامة للشعب في اليمن, مانحاً الشعب في الولايات المنتجة الحق الحصري في إدارتها وتسويقها والاستفادة منها, بينما المركز الاتحادي الذي يمثل عموم الشعب لا يحصل سوى على نسبة من العائدات “تخصص” له.
والفكرة هنا انه حتى في الإشكال الفيدرالية السائدة في العالم, تبقى الثروات الوطنية حقاً سيادياً للدولة ولعموم المواطنين فيها, تُمنح فيه الأقاليم أو الولايات المنتجة امتيازات خاصة وليس حصرية ولا تغلق أمام المواطنين أو الولايات والأقاليم الأخرى, بينما ما تم في هذه المادة هو عكس تماماً.
بالتأكيد, يبدو المبدأ التاسع من هذه المبادئ عنواناً عريضاً لفكرة التمييز بين اليمنيين وإيجاد تعريف جديد لمصالحهم في مواجهة بعضهم البعض, علاوة على كون صياغته يتسم بالتناقض والعبث وعدم المعقولية وعدم وجود إمكانية للتحقيق؛ لماذا أقول ذلك؟ يمكن أن نجد كاشفاً لذلك في الفقرات التي تقرر أنه “خلال الدورة الانتخابية الأولى, بعد تبني الدستور الاتحادي يمثل الجنوب بنسبة 50% في كافة الهياكل القيادية وفي الهيئات التنفيذية والتشريعية والقضائية, بما فيها الجيش والأمن, والتي يتم التعيين فيها بموجب قرارات يصدرها رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء, ويمثل الجنوب كذلك نسبة 50% في مجلس النواب, ويجب معالجة عدم المساواة في الخدمة المدنية والقوات المسلحة والأمن على المستوى المركزي عبر قوانين ومؤسسات, وبما يضمن إلغاء التمييز وتكافؤ الفرص لجميع اليمنيين, ومن أجل معالجة تفاوت التمثيل في التوظيف يكون للجنوبيين أولوية في شغل الوظائف الشاغرة والتأهيل والتدريب في الخدمة المدنية والقوات المسلحة والأمن, ويجب أن تحترم التعيينات متطلبات الخدمة المدنية المتعلقة بالمهارات والمؤهلات, ولا يحق صرف أي موظف بشكل تعسفي”.
فهو بداية يُقرر للجنوب كجغرافيا 50% من كل شيء ويُقرر للشمال النسبة المماثلة تماماً, مهملاً حقائق التفاوت السكاني, ومركزاً على أفضلية الهوية الجهوية وامتيازها لشاغل الموقع العام على أفضلية كفاءته واستحقاقه التي يقول ذات النص أنه “يجب أن تحترم التعيينات متطلبات الخدمة المدنية المتعلقة بالمهارات والمؤهلات”!
وإذا أقررنا ضرورة ذلك ضمن فكرة أن الموضوع مؤقت وضروري, فلم يُجب أحد كيف سيتم تدبير انتخاب مجلس تشريعي بناء على نسبة 50% للشمال والجنوب, هل سيصوت الناس على أساس جهوي, بمعنى أن الجنوبي سيختار فقط ال50% الخاصة به والشمالي كذلك, وهل ستتشابه طرق الانتخاب وقواعده المنظمة في ظل التفاوت في العدد بين الطرفين المفصولين جذرياً وفق ما يوحي به نص المادة, ومن هو الجنوبي هنا والشمالي كذلك, هل هم أعراق؟ فإذا كنا نفهم الجنوب كجهة جغرافية في التصنيف العام, لا أدري كيف يمكن عكسها على الواقع واعتمادها لتحديد وفرز السكان بشكل نقي وجراحي, ومن ثم انعكاسها على طريقة ممارستها حقوقهم بناء على هويتم الجغرافية هذه.
واستكمالا لذلك, هل لتحقيق المساواة في الخدمة المدنية سيتم إلغاء التمييز تجاه الجنوبيين أو بين اليمنيين, بناء على اعتبارات الجهة الجغرافية التي ينتمي إليها الفرد وليس على الاستحقاق الوظيفي القائم على المعايير الكفاءة والمؤهل, وهكذا يتم مناهضة التمييز بناء على تمييز؛ أما في الجيش وأجهزة الأمن هل سيتم إحصاء الأفراد وفرزهم بناء على هوياتهم الجديدة المستحدثة, لتحديد ماهية النقص في عدد الجنوبيين أو الشماليين, رغم ما لذلك من تداعيات مثيرة للانقسام والضغائن خصوصاً في جيش وأجهزة أمنية يُفترض أن يكون طابعها وطنيا جامعا غير تمييزي!
يمكن القول بالطبع أن هذه الإجراء التمييزي مؤقت لفترة انتخابية أولى بعد إقرار الدستور الاتحادي كما يقول هذا المبدأ, ولكن هذه الفترة المؤقتة تعني 4 سنوات كاملة من الصراعات الحثيثة بين عموم اليمنيين بناء على استحقاقات تنشئها هويات جديدة.
ولكن هذا التدبير التمييزي المؤقت لصالح الجنوب, ليس مؤقتاً فعلا كما يقول النص بداية؛ فهو يعود لاحقاً ويقر بذات المبدأ ما سماه “حماية المصالح الحيوية للجنوب” هذه المصالح التي تحميها آليات خاصة قضائية وتشريعية وتنفيذية تأتي في مواجهة من هنا؟ إنها في مواجهة الشمال والشماليين! أي أن هذا النص الذي يريد إنشاء دولة وطنية اتحادية عادلة؛ يؤسس صراع مصالح بين السكان في الشمال والسكان في الجنوب, فما دامت هناك مصالح حيوية للجنوب فيجب أن تنشأ نظيرة لها في الشمال, وهكذا يتم تعريف علاقة اليمنيين بعضهم ببعض ضمن صراع لا نهاية له, قائم على أساس مصالح متباينة في ما بينهم يحكمها التعريف الجغرافي لا الهوية الوطنية المشتركة التي تم تفكيكها ببساطة إلى شمال وجنوب في هذا النص إن ما يطلق عليه مصالح حيوية هو شأن يُلحق ببلد بأكمله في مواجهة دول أخرى ضمن أدوار السياسة الإقليمية والدولية التي يمارسها حماية وتعزيزاً لهذه المصالح, وهو بالتأكيد ليس تعريفاً إجرائياً يتم التعامل معه باستخفاف ويضع سكان البلد في مواجهة سكان آخرين من البلد نفسه في علاقة ضدية!
طبعاً, يأتي المبدأ العاشر ليعيد تعريف الجنسية اليمنية واستحقاقاتها بشكل ملتبس, حيث يقول نصها: “ينتمي جميع أبناء الشعب في اليمن, مهما كان موطنهم الإقليمي إلى جنسية وطنية مشتركة, ولكل مواطن يمني, من دون تمييز حق الإقامة والتملك والتجارة والعمل وإي مساع شخصية قانونية أخرى, في أي ولاية أو إقليم من الدولة الاتحادية”.
والسؤال هنا ماذا تعني جنسية وطنية مشتركة؟ ولماذا حصر حقوق المواطن اليمني في الإقامة والتملك والتجارة والعمل أو أي مساع شخصية مشروعة, هل يعني هذا أنه لا يحق له ممارسة حقوقه السياسية أو المدنية الأخرى ما لم يكن في إقليمه, ولا يستطيع أن يكون مرشحاً أو ناخباً أو ناشطاً سياسياً أو مدنياً ما لم يكن إقليمه الأصلي. وهكذا يظل ابن إقليم الجند أو إقليم حضرموت , وهو أبن هذا الإقليم بعينة كجوهر خالد لا يتغير.
باستثناء المساعي الشخصية “المشروعة” التي لا تهدد نقاء الإقليم الآخر إذا ذهب إليه, وهكذا يُصبح تأويل هذه “المشروعية” فضفاضاً ومفزعاً ومثيراً لأسباب الكراهية والحذر بين اليمنيين.
إن مجمل مبادئ هذه الوثيقة وأن كان لا تحدد عدد الأقاليم ب6 أو اثنين كما يدور الجدل الآن, فهي قد حسمت الأمر أساساً بوضع هويتين في مواجهة بعضهما: الجنوب بمقابل الشمال, وهكذا تصبح مسألة تحديد عدد الأقاليم نقاشاً إدارياً تنظيمياً محضاً, لا يخلق فرقاً جوهرياً في ظل هذه الحقيقة الثابتة والمحسومة.
إن هذه الوثيقة تعني تمزيقاً كلياً للمشترك الوطني الجامع بين اليمنيين, وتضعهم في مواجهة بعضهم ضمن دورات صراعية مفتوحة على أزمات واحتقان متكررة, وربما احتراب فعلي, مردها تكريس هويات ذات طابع انقسامي في دولة جديدة تنشأ على انقاض تعايش اليمنيين الهش بالأساس.
عن: مجلة المفكرة القانونية- بيروت